قضايا و اراء

                 







قضايا و اراء

42033‏السنة 126-العدد2002يناير5‏21 من شوال 1422 هــالسبت

مزاعم هنتنجتون حول عصر حروب المسلمين
بقلم: د‏.‏ عبد الناصر توفيق
جامعة بيليفيلد‏-‏ ألمانيا

قام الأهرام في العدد‏42019(‏ بتاريخ‏22‏ ديسمبر‏)‏ بمبادرة طيبة بنشر ترجمة لمقال صمويل هنتنجتون من العدد السنوي لمجلة النيوزويك‏(‏ ديسمبر‏2001‏ ـ فبراير‏2002)‏ والذي وصف فيه العصر الحالي بأن حروب المسلمين فيه قد احتلت مكانة الحروب الباردة كشكل أساسي من أشكال الصراعات الدولية تنبع أهمية هذا المقال من الشهرة الواسعة التي يتمتع بها الكاتب صمويل هنتنجتون‏,‏ وخاصة منذ قيامه في عام‏1996‏ بنشر كتابه الشهير عن صراع الحضارات منذ هذا التاريخ أصبح هنتنجتون أشهر مؤلف في العلوم السياسية خاصة في مجالات التأطير التنظيري للحالة الدولية التي أعقبت إنهيار الاتحاد السوفيتي وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بمكانة القوة العظمي الوحيدة‏.‏ ومنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر الماضي طبقت شهرته الآفاق ذلك أن ما حدث في هذا اليوم الرهيب من هجوم دموي علي رموز القوة والسطوة الأمريكية بأشكالها السياسية والعسكرية والاقتصادية والذي اتهمت فيه جماعة إرهابية متطرفة ترفع شعارات إسلامية‏,‏ تم تفسيره في الدول الغربية‏(‏ في إجهزة اتخاذ القرارات السياسية والعسكرية وفي وسائل الإعلام‏)‏ علي أنه دليل قوي علي صحة ما تنبأ به هنتنجتون بأن الإسلام هو القوة الأيديولوجية التي أصبحت تمثل تهديدا قويا للعالم الغربي في مقال نشر لي في الأهرام بتاريخ‏2‏ نوفمبر رددت علي بعض مزاعم المروجين لهذه النظرية الخبيثة‏.‏ وأنه من سوء مقاصدهم عدم التفريق بين مفهوم الثقافة وبين خصائص العقيدة وأن هناك عيوبا خطيرة في وسائلهم في الاستنباط لا تخفي علي العارفين بأساليب وشروط البحث العلمي النزيه‏.‏

في هذا المقال لا نكاد نلمح تغييرا في الأسلوب الذي اتبعه الكاتب منذ صدور كتابه عن صراع الحضارات فهو يستند كعادته في الانطلاق من حقبة الحرب الباردة والتي واجهت فيها الرأسمالية الغربية ردعا اقتصاديا ومنافسة عسكرية من دول الكتلة الشيوعية بزعامة الاتحاد السوفيتي‏,‏ وفي هذا المقال يؤرخ هنتنجتون لما يسميه عصر حروب المسلمين باللحظة التي كانت فيها مرحلة الحرب الباردة في العالم تنزوي عن الأنظار في الثمانينيات‏.‏ وبالتحديد بتاريخ الغزو السوفيتي لأفغانستان عام‏1989‏ واندلاع الحرب العراقية الإيرانية في عام‏1981‏ ولسنا بحاجة لتوضيح أن الاجتياح السوفيتي لأفغانستان وقع في معترك الحرب الباردة وانطبقت عليه كل قوانينها ولهذا لا يمكن أن ينظر إليه ولا إلي المقاومة الافغانية له علي أنها بداية الحروب الإسلامية التي يروج لها هنتنجتون في هذا المقال‏.‏ والحرب العراقية الإيرانية إندلعت كرد فعل علي قيام الثورة الإسلامية في إيران‏,‏ أي أن المصالح الغربية فيها واضحة وللمصادفة أنها اتفقت مع رغبة النظام العراقي في إعادة السيطرة علي شط العرب‏,‏ الذي تخلي عنه في اتفاقية وقعها مع الشاه الإيراني‏,‏ ولهذا فجذور هذه الحرب تعود أيضا إلي حقبة الحرب الباردة وليست وليدة عام‏1989‏ ولا يحيد الغزو العراقي للكويت عن هذا المسار كثيرا ولعل التأييد الإسلامي شبه الجماعي وكذلك التأييد الدولي الواسع للقيام بعمل عسكري لطرد القوات العراقية وتحرير الكويت دليل علي أن هذه المغامرة لا يمكن وصفها بالحرب الإسلامية‏.‏

انطلق المؤلف بعد ذلك مستعرضا لعدد من الحروب الأهلية في التسعينيات مثل البوسنة‏,‏ كوسوفا‏,‏ مقدونيا‏,‏ الشيشان‏,‏ إذربيجان‏,‏ طاجيكستان‏,‏ كشمير‏,‏ الهند‏,‏ الفلبيين‏,‏ إندونسيا‏,‏ السودان‏,‏ نيجيريا مدعيا أنها جميعا تتفق في كونها حروبا بين المسلمين وغير المسلمين‏.‏ كما أشرنا أنه معروف عن المؤلف مثل هذا التعميم غير المبرر‏,‏ والذي لا يخفي علي أي مراقب لتطورات تلك الحروب المتنوعة‏,‏ علي سبيل المثال لا يوجد أي تشابه بين الحروب الطاحنة في منطقة البلقان وبين الحرب الأهلية السودانية أو الحروب الانفصالية في الأرخبيل الإندونيسي ولا بينها وبين الاضطرابات القبلية في نيجيريا ولا يكتفي الكاتب بهذا التعميم المفرط بل يهمل متعمدا العديد من الحروب الأهلية الأخري والتي لو ذكرت بأمانة إلي جانب الأمثلة السابقة لتم نسف الادعاء بأن الحقبة الحالية هي حقبة لحروب المسلمين‏.‏ هذا الاهمال المتعمد ما كان يجب الوقوع فيه إذا كانت النزاهة العلمية هي الهدف وأوضح أمثلة علي الحروب الأهلية غير الإسلامية‏(‏ نستخدم مجازا المصطلح الذي يروج له المؤلف‏)‏ رواندا‏,‏ السيخ والهندوس في الهند‏,‏ البروتوستانت والكاثوليك في إيرلندا‏,‏ والحروب التي تجتاح وسط وغرب إفريقيا‏,‏ إلخ‏.‏

يأتي الكاتب بعد ذلك إلي الجماعات الإرهابية ويعرض في هذا الإطار لإحصائية نشرتها مجلة الإيكونوميست بأن ثلاثة أرباع الأحداث الإرهابية كانت من تدبير مسلمين وعلي الرغم من عدم إمكانية إنكار وجود تنظيمات راديكالية تتخذ شعارات تدعي أنها مستمدة من العقيدة الإسلامية‏,‏ إلا أنه تجب الإشارة إلي أن الكثير من الجماعات التي تصنف في الدول الغربية كإرهابية هي في حقيقة الأمر جماعات كفاح مشروع وتنخرط في معظمها في حروب تحريرية ضد قوي احتلال غاشمة‏.‏ الصنف الآخر المشبوه من هذه الجماعات له توجهات معادية للمجتمعات المحلية‏(‏ الإسلامية‏).‏ ولايكاد يوجد لها نشاط يذكر ضد المصالح الغربية الشيء الآخر الذي ما كان لكاتب وأستاذ جامعي معروف في مكانة السيد هانتينجتون أن يقع فيه هو تصويره أن هناك دولا أو جماعات أو أفرادا لهم الحق في الحديث باسم الإسلام‏.‏ هذا التفويض الإلهي موجود في الديانات الأخري وليس له وجود في صحيح العقيدة الإسلامية أي أن الدول والجماعات وحتي الأفراد ليس لدي أي منهم بشخصه أو حتي بصفته تفويض ليحدد نوع الإسلام أو ليحدد حالة الحرب من حالة السلم كما يذكر الكاتب‏.‏ وأي عمل يندرج في هذا الإطار يقع ضمن السياسات وليس له أساس عقائدي بسبب عدم وضوح هذه النقطة بالنسبة للكاتب تجده يبشر بحقبة حروب المسلمين علي أساس افعال إرهابية اقترافتها جماعات أو أفراد‏,‏ يتصور الكاتب أنهم يمثلون الإسلام‏.‏ حتي الدول التي أوردها لا يصح وصف الحروب التي خاضتها بالحروب الإسلامية‏.‏

رغم هذه المقدمات المعيبة وقبل أن يصل الكاتب إلي وضع أسباب للعنف الذي يصفه بالإسلامي‏,‏ يذكر أن أسباب حروب المسلمين المعاصرة تكمن في السياسات وليس في العقيدة الدينية للقرن السابع‏.‏ علي كل حال نقدر له الوصول إلي هذه الحقيقة‏.‏ ولكن إن كان حقا يؤمن بهذه الحقيقة‏,‏ فكيف ولماذا يروج للمزاعم القائلة بأن الحضارة الغربية‏(‏ اللادينية‏)‏ يمكن لها أن تصطدم مع الإسلام؟
الأسباب الأربعة التي ساقها وكانت حسب رؤيته وراء العنف الذي ساد العصر الحالي هي‏:‏

أولا‏:‏ انبعاث الوعي الإسلامي في العقود الأخيرة كرد فعل تجاه الحداثة والتحديث والعولمة‏.‏ وهو إن كان ينظر إلي هذا علي أنه شيء جيد من أكثر من وجه‏,‏ إلا أن ايراد هذا السبب فيه تجن واضح فالعالم الإسلامي وعلي الأقل الدول الكبري فيه عرفت الحداثة والتحديث منذ مدة طويلة‏,‏ ولم يكن من جراء ذلك أن اتخذ المسلمون فيها من الارهاب وسيلة للمقاومة علي العكس من ذلك وجدت تيارات التحديث قبولا واسعا بين جماهير المسلمين‏,‏ وأن أي ارتداد إلي الأصول التراثية كان يتم في أطر ثقافية وحضارية سلمية وفي موقف المصريين من الحملة الفرنسية دليل قوي علي تفتح عقول المسلمين المصريين علي أدوات التحديث وإن قاوموا الاحتلال العسكري الغاشم‏.‏ ورغم ذلك ينظر الكاتب إلي المؤسسات‏(‏ لعله يقصد الجماعات‏)‏ الإسلامية علي أنها سدت احتياجات الأعداد المتزايدة للمسلمين في الحضر ووفرت لهم الدعم الاجتماعي والصحي والأخلاقي وكذلك التعليم والعمل والإغاثة حيث يدعي أن الحكومات الإسلامية لم تقم بدورها في تأمين هذه الخدمات ويعود فيذكر أن الإسلاميين يمثلون في العديد من المجتمعات الإسلامية الشابة قوة المعارضة الرئيسية ضد حكومات قمعية أي أنه يصورهم في صورة الجماعات ذات القبول الجماهيري الواسع‏,‏ وهو مايخالف الواقع‏.‏

ثانيا‏:‏ يدعي أن أسباب هذا العنف تعود إلي وجود إحساس قوي بين العرب بالحزن والاستياء والحسد وكذلك العدوانية تجاه الغرب وثروته وقوته وثقافته‏.‏ ويري أن جذور هذه المشاعر تعود الي عهود الاستعمار والهيمنة الإمبريالية‏.‏ وأنها تأججت بفعل السياسات الغربية تجاه العراق والتحالف الاستراتيجي مع إسرائيل‏,‏ وأن الأعمال الإرهابية هي رد فعل مزدوج ضد الحكومات الإسلامية غير الديمقراطية وعقابا للغرب علي سياساته‏,‏ ولكن حتي وإن كانت السياسات الغربية مدعاة للنقد وخاصة في عدم اكتفائها بتدمير مظاهر الحضارة في العراق وإعادته قرونا كثيرة إلي الوراء وأنها لاتزال تفرض عليه حصارا جائرا ليس له مثيل إلا في العصور‏,‏ التي كانت فيها البشرية تتخبط في ظلمات الهمجية وكذلك في دعمها اغتصاب إسرائيل للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني إلا أن الكثيرمن التنظيمات الإرهابية لم تهتم في يوم من الأيام بمثل هذه القضايا‏.‏ وتنظيم القاعدة مثال علي هذه الجماعات التي لم يكن لها أي مبادرة حتي لمجرد الدعم المعنوي لكفاح الشعب الفلسطيني‏.‏
ثالثا‏:‏ يذكر أن الانقسامات القبلية والدينية والعرقية والسياسية والثقافية بين دول العالم الإسلامي تقود إلي عنف داخلي‏.‏ وأن وجود حكومة إسلامية واحدة لها من السطوة والتأثير في العالم الإسلامي قد يؤدي إلي تقليل العنف بين المسلمين وبينهم وبين غير المسلمين في هذا يفترض أن الحكومات ستسيطر علي التنظيمات الإرهابية‏,‏ وهو ما لم تستطع أي حكومة القيام به‏.‏ حتي الحكومات الغربية فشلت في ذلك

رابع‏:‏ يذكر أن زيادة اعداد الشبان‏(‏ من سن‏16‏ وحتي‏30‏ عاما‏)‏ المنخرطين في نشاطات هذه الجماعات المتطرفة يرجع الي تزامن الصحوة الإسلامية مع زيادة معدل المواليدفي بلدان العالم الاسلامي‏.‏ وأن هذه فئة علي قدر من التعليم الفني والعالي لا بأس به‏.‏ ويتوقع أن تنكمش الأعمال الإرهابية في غضون العشرين سنة القادمة‏,‏ فقط بسبب تراجع معدل المواليد
علي الرغم من هذه الأسباب إلا أنه يري أن العنف الإسلامي لايزال تحت السيطرة وأنه محدود ومتفرق رغم هذه النبرة المنطقية يعود الي سابق عهده في القفز إلي استنتاجات غير مبررة مثل قوله إن هدف اسامة بن لادن هو حشد العوامل الأربعة السابقة لتشكل صداما حضاريا عنيفا بين الاسلام والغرب وأنه يقوم بتعبئة المسلمين في كل مكان من أجل تفعيل جهاده ضد العالم الغربي يعود سبب فشله في هذا حسب رأي الكاتب إلي الانقسامات داخل العالم الإسلامي

ومرة أخري يضعنا الكاتب أمام استنتاجات لاندري كيف توصل إليها فبالرغم من أنه سبق وقرر أن العنف الإسلامي علي حد تعبيره لايزال محدودا وتحت السيطرة‏,‏ يعود ويقرر أن عناصر صدام الحضارات متوافرة لعل مايقصده بصراع الحضارات هو ماحدث عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر وأن الدول الغربية ذات الثقافة الانجليزية‏(‏ بريطانيا‏,‏ كندا‏,‏ استراليا‏)‏ كانت الأسرع من غيرها من الدول الغربية الأخري في تشكيل قوة رد عسكرية مشتركة مع القوات الأمريكية‏.‏ ورغم أن هذه الأحداث الدموية تمت إدانتها من قبل كل الدول الإسلامية وأن دولا إسلامية مهمة مثل تركيا وباكستان وأوزبكستان قدمت تسهيلات حيوية ودعما قويا للرد العسكري الأمريكي‏,‏ إلا أن الكاتب أهمل كل هذا ولايزال يروج لنظريته عن صراع الحضارات‏.‏ وفي هذا المقال يضع أحداثا دولية وإرهابية وفردية غير مترابطة ليدلل بها علي ميلاد عصر يسميه عصر حروب المسلمين‏.‏

بداية الصفحة

تقارير المراسلينالعالمالوطن العربيمصرالصفحة الأولي
ثقافة و فنونالرياضةإقتصادقضايا و أراءتحقيقات
المرأة و الطفلملفات الأهرامأعمدةالكتابالقنوات الفضائية